الشيخ العلامة الأخضر الدهمة
ترجمة الشيخ المفسر الموقر المنافح عن التوحيد في غارداية وما جاورها الأخضر الدهمة حفظه الله ورعاه.
الأخضر بن قويدر الدهمة , من مواليد عام 1925م في متليلي , إحدى مدن الجنوب الجزائري[1] .
نشأ الشيخ في مدينة متليلي الشعانبة , وختم القرآن على يد أحد معلميها , وهو الشيخ محمد كديد _ رحمه الله _ , وتعلم شيئا من الفقه .
ثم انتقل عام 1942م , مع بعض زملائه من متليلي , إلى مدينة غارداية لتلقي علوم اللغة العربية والفقه الإسلامي على المذهب المالكي على يد الشيخ : محمد الأخضر فيلالي أحد تلاميذ الشيخ عبد الحميد بن باديس , _ رحمهما الله _.
وقصة مجيء الشيخ محمد الأخضر فيلالي إلى غارداية أنه كان في زيارة لصديقه الشيخ محمد البشير الإبراهيمي في منفاه بمدينة آفلو أثناء الحرب العالمية الثانية[2] , وصادف ذلك أن زاره أحد أعيان قبيلة المذابيح في غارداية وهو السيد : زرباني أبو بكر [3] , وبتلك المناسبة طلب منه باسم الجماعة أن يعين لهم شيخا من مشايخ جمعية العلماء المسلمين لينفع الله الأمة بعلمه , فوجد الشيخ البشير الفرصة سانحة ليقترح على الشيخ محمد الأخضر المذكور أن يلبي طلب الجماعة , ورغبه في ذلك فكان منه القبول .
واصطحبه الأخ أبوبكر معه إلى غارداية ليجد الشيخ الترحيب التام من المواطنين , وذلك في خلال سنة 1940م , ولم يلبث أن كون ثلاث حلقات علمية على حسب مستويات الطلبة في اللغة العربية وقواعدها , والفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك _ رحمه الله_ مع تحفيظ القرآن الكريم , ومراجعته يوميا بالنسبة لحافظيه ………..
وكانت له حلقة عامة بعد صلاة العشاء في جامع خالد بن الوليد في كل ليلة تؤمها الجماهير من أحياء غارداية , وموضوعها : الأحاديث الشريفة وشرحها , وما يستنبط منها من أحكام وحكم .
أما في فصل الصيف وجزء من فصل الخريف فينتقل بطلبته إلى الجامع العتيق بضاية بن ضحوة[4] .
وكان في درسه العام أحيانا ينهى أولياء البنات عن إرسال بناتهم إلى مدرسة من يسمونهم ” الأخوات البيض” تجنبا لتنصير فلذات أكبادهم , وقد وقع المحذور ولكن في عدد قليل .
كما كان في الحلقات الخاصة يكون طلبته تكوينا سياسيا , وفي كل مناسبة يزرع في قلوبهم كراهية الاستعمار الفرنسي الطاغي , الذي لا يجوز استمراره في البلاد , ولا يستساغ تحكمه في العباد , ويخزن في ضمائرهم الاستعداد للمساهمة في تحرير الوطن عندما يأذن الله بذلك , وكان يعلن لطلبته أن العدو الحقيقي للمسلمين ليس بعضهم لبعض مهما اختلفت طوائفهم ومذاهبهم[5] , وإنما هو الاحتلال الفرنسي الذي يغذي فيهم العداوات والنزاعات انطلاقا من القاعدة التي اتفق عليها محتلو البلاد العربية , وهي ” فرق تسد” , الأمر الذي لفت الحاكم الفرنسي إلى خطورته , فكلف جواسيسه بمراقبته في دروسه الخاصة والعامة , وقد بلغ السيل الزبا حينما اتهم بتأييد حاملي السلاح من القطر الليبي إلى القطر الجزائري , فنفي من غارداية , وبذلك فترت النهضة العلمية التي زرع بذورها في الفترة الممتدة بين : 1940م -1946م , ولو أن روحها ظل يحرك المتمتعين بها , والمستفيدين منها ليعكسوه في أرواح غيرهم من إخوانهم وأبنائهم .
عاد الشيخ المنفي من الجزائر العاصمة إلى غارداية بعد تدخلات لدى السلطات الحاكمة من بعض المقربين عندها , ولكن لا ليستأنف النشاط فيها , لكن ليحقق حلما راوده في منفاه وهو إرسال وفد من طلبته إلى تونس لينهلوا من معين جامع الزيتونة , ثم يعودوا إلى بلدهم ليواصلوا النهوض بالحركة الإصلاحية التي أنشأها.
تحقيقا لرغبة الشيخ محمد الأخضر فيلالي في التحاق بعض الطلاب بجامع الزيتونة , اختير منهم ثلاثة , أحدهم الأخضر الدهمة , فذهب بهم إلى تونس في أوائل شهر أكتوبر من سنة 1946م , وبعد أن سلكهم في التعليم الزيتوني عاد إلى غارداية ليجد رغبة جامحة في نفوس بعض الطلبة ليلتحقوا بالتعليم الزيتوني أيضا فأجابهم إلى ذلك , وكون منهم وفدا قوامه خمسة أو ستة , وبعد أن اطمأن عليهم في تونس رجع إلى الوطن .
في أثناء العطلة الصيفية من السنة الدراسية 1946م-1947م وجه الحاكم بغارداية بواسطة أحد عملائه المخلصين في متليلي إنذارا شديدا إلى أولياء الطلاب الذين يرسلون أبناءهم إلى تونس ليتعلموا في جامع الزيتونة بأمر من الحاكم الفرنسي في غارداية , يحذرهم من إعادة إرسالهم إلى تونس , وينصحهم بأن يحتفظوا بتلك المنح المالية لأنفسهم لأنهم فقراء , ولأن أبناءهم لا ينفقونها إلا في لهوهم وعبثهم , وحتى إذا تعلموا فإنهم لا يتعلمون إلا الأفكار السيئة ( طبعا الأفكار المضادة للاستعمار ), فرفض أبوه أمر ذلك الممثل , وجابهه بأنه مستعد لإفناء كل ما يملك من مال في سبيل تعليم ابنه ما دام يرغب في ذلك .
دخلت السنة الدراسية : 1947م -1948م , فتوجه للدراسة كالمعتاد , وفي ليلة من ليالي شهر أفريل 48م , نفذت المؤامرة التي حيكت لوالده قويدر الدهمة بأمر من الحاكم الفرنسي , وذلك بإفراغ محله التجاري من جميع محتوياته , والاستيلاء عليها , ثم إشعال النار فيه لتأتي على خزائنه ورفوفه الخشبية , عقوبة له على عصيان السلطة الحاكمة في إرسال ابنه إلى تونس , ونتيجة لهذه الفاجعة المؤلمة أصبح فقيرا معدما عاجزا حتى عن تحصيل قوت عياله , عندها أرسل إلى ابنه الأكبر الذي كان يشتغل في الجزائر ليتولى تزويد أخيه الأخضر بالمساعدة المالية الشهرية , ولولا تلك المساعدة التي تفضل بها أخوه أحمد عليه لانقطع عن الدراسة في أثناء السنة .
ويجيء الحاكم الفرنسي إلى متليلي ليستمتع بتحقيق المؤامرة التي بشر بها , وما كادت عيناه ترى نتيجتها المرضية له حتى ارتسمت على فمه ابتسامة عريضة , ولسان حاله يقول : المال الذي تريد إفناءه في تعليم ابنك نفنيه نحن قبلك , وهنا استغرب الوالد من هذه الابتسامة الواقعة في غير محلها فسأله عنها بواسطة المترجم ليجيبه بأنه كان يتعجب من الحيلة التي استطاع المعتدون أن يدخلوا بها كالفئران إلى هذا المحل المحصن , ويقول له : حين تكتشف المعتدين عليك أن تقدم شكوى إلى محكمة البليدة , ويجيب الوالد بأنه يقدم الشكوى إلى محكمة أخرى ؟؟ .
وهنا ينفعل الحاكم ليسأله _ بواسطة المترجم _ : أي محكمة ؟ ليجيبه : إنها محكمة ربي …
وسرعان ما اكتشفت خلية الحزب الذي كان ينتمي إليه الابن ( الأخضر ) _ وهو حزب حركة الانتصار للحريات الديمقراطية _ المعتدين بالحجة الدامغة , وأخبرت عنها الوالد ليخبر عنها هو بدوره ممثل السلطة , ولكن هذا الممثل كان ينفي عنهما التهمة بشدة ويستدل بأمور لا يصدقها حتى البلهاء ! مما يدل على المؤامرة المحبوكة …
في آخر السنة الدراسية 49/ 50 م , قرر الانقطاع عن الدراسة لقلة ذات اليد , ولكثرة الاحتجاجات الطلابية التي قلصت من مدة الدراسة , بعد أن نال مستوى شهادة التحصيل في الزيتونة .
ومن مشائخه في تونس الذين استطاع أن يتذكر أسماءهم : الحبيب بلخوجة , الطاهر الغمراسني , صالح النيفر , صالح بسيس .
[1] وهي تابعة لولاية غارداية .
[2]وقد أجبره على الإقامة في ذلك المنفى الحاكم الفرنسي .
[3]كانت مبادرة هذا الرجل الفاضل ومن معه سببا في تعلم بعض أبناء المنطقة , ومنهم شيخنا الأخضر الدهمة , على يدي الشيخ محمد الأخضر الفيلالي الذي هو أحد علماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين , فجزاه الله خيرا على ذلك , وجزى الله القائمين على الدعوة والتعليم أينما كانوا .
[4] هي إحدى بلديات ولاية غارداية بالقطر الجزائري
[5] وهذا لا يعني عدم بيان الخلل إن وجد , والتنبيه على الأخطاء , والإنكار على من خالف، بل المراد أن الأمة ملزمة كلها في المساهمة في حرب العدو الصليبي أولا .